التسريح الجماعي في أمريكا.. السياسة تهدد مبدأ الأمان الوظيفي بالمؤسسات الفيدرالية
التسريح الجماعي في أمريكا.. السياسة تهدد مبدأ الأمان الوظيفي بالمؤسسات الفيدرالية
جاءت موجة التسريحات الأخيرة التي أعلنتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صفعة سياسية واقتصادية تضرب جوهر الحق في العمل والكرامة الوظيفية، فبينما انشغل المشرّعون في واشنطن بمعركة التمويل وإغلاق الحكومة، وجد آلاف الموظفين الفيدراليين أنفسهم فجأة على حافة البطالة، بلا ضمانات حقيقية ولا تعويضات عادلة.
وبدأت الإدارة الأمريكية بإجراء عمليات تسريح واسعة النطاق في صفوف الموظفين الفيدراليين، في خطوة وصفتها "فايننشيال تايمز" بأنها "تصعيد لمعركة التمويل بين المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين"، وذلك عقب إغلاق الحكومة الذي بدأ الأسبوع الماضي.
أعلن مدير الميزانية في الإدارة الأمريكية، راسل فوت، عبر منصة X يوم الجمعة، أن "إجراءات تسريح الموظفين قد بدأت"، مشيرًا إلى أن هذه العملية تتضمن "تخفيضات في عدد الموظفين" داخل الوكالات الفيدرالية التي كانت الإدارة تهدد بها منذ أيام.
وأكدت الصحيفة أن البيت الأبيض لم يُحدّد عدد الموظفين الذين ستشملهم قرارات التسريح، غير أن مصادر داخل الإدارة أشارت إلى تأثر وزارات حيوية مثل الخزانة والصحة، وأشارت إلى أن هذه الخطوة ستزيد من المخاطر السياسية والاقتصادية للإغلاق الحكومي، إذ عادةً ما يُمنح الموظفون الفيدراليون غير الأساسيين إجازة مؤقتة تُعوَّض لاحقًا، غير أن الإدارة الأمريكية تتجه هذا العام إلى تسريح دائم للموظفين، وهددت بعدم دفع المستحقات للذين فُصلوا، ما يُضاعف الأثر الاجتماعي والاقتصادي في آلاف العائلات الأمريكية.
وصفت الصحيفة راسل فوت، المشارك في تأليف بيان مشروع 2025 الخاص بسيطرة الجمهوريين على البيت الأبيض، بأنه أحد أشد المدافعين عن تقليص حجم الحكومة الفيدرالية وإعادة تشكيلها.
نقابات الخدمة المدنية
أدان رئيس نقابة موظفي الخدمة المدنية والبلديات الأمريكية (AFSCME)، لي سوندرز، قرارات التسريح الجماعي واعتبرها "غير قانونية"، مؤكدًا في تصريحات نقلتها فايننشيال تايمز أن "عواقبها ستكون مدمرة".
وقال سوندرز: "سواءٌ كانوا مفتشي أغذية، أو عمال سلامة عامة، أو عدداً لا يُحصى من موظفي الخدمة العامة الذين يُحافظون على استمرارية أمريكا، فينبغي ألّا يكون الموظفون الفيدراليون أوراق مساومة في الألاعيب السياسية لهذه الإدارة".
وأضاف: "سنسعى بكل السبل القانونية المتاحة لوقف هجمات هذه الإدارة غير القانونية على حريات ووظائف موظفي الخدمة العامة".
سارعت القيادات الديمقراطية في الكونغرس إلى إدانة القرار، حيث اتهم زعيم الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، الإدارة الأمريكية بـ"التسبب في فوضى متعمدة" داخل البلاد، قائلاً: "لنكن صريحين: لا أحد يُجبر الإدارة على فعل هذا.. ليسوا مُجبرين على ذلك، بل يريدونه.. إنهم يختارون بقسوة إيذاء الناس؛ العمال الذين يحمون بلدنا، ويفحصون طعامنا، ويستجيبون للكوارث".
وفي موقف نادر من داخل الحزب الجمهوري نفسه، أعربت السيناتور الجمهورية لولاية مين، سوزان كولينز، عن "معارضتها الشديدة" لهذه الإجراءات، محذرةً من أنها قد "تُلحق الضرر بالعائلات في ولايتها وفي جميع أنحاء البلاد".
الرعاية الصحية
أوضحت "فايننشيال تايمز" أن الإغلاق الحكومي بدأ في الأول من أكتوبر، بعد رفض الديمقراطيين دعم مشروع قانون مؤقت كان من شأنه تمديد تمويل الحكومة حتى أواخر نوفمبر، بسبب رفضهم التخلي عن شرط التفاوض بشأن تمديد دعم التأمين الصحي المقرر انتهاؤه بنهاية العام، وأشارت إلى أن هذا التهديد يعرض ملايين الأمريكيين لارتفاع كبير في تكلفة التغطية الطبية.
رهنت الإدارة الأمريكية موقفها على أن الديمقراطيين سيستسلمون في النهاية، إلا أن الغالبية منهم ظلت متحدة في مقاومة مطالبها، وقالت الصحيفة إن بعض الجمهوريين أنفسهم بدأ يدق ناقوس الخطر، من بينهم عضوة الكونغرس عن ولاية جورجيا، مارجوري تايلور غرين التي كتبت على منصة إكس : "الديمقراطيون هم من خلقوا هذه المشكلة عام 2010، وزادوها سوءًا عام 2021، ولم يُعالجها الجمهوريون قط".
وقد ردّ شومر في مقابلة مع “بَنشبول نيوز”: "كل يومٍ تتحسن بالنسبة لنا معركة الإغلاق.. كانت نظريتهم تدور حول تهديدنا وخداعنا، وأن نستسلم في غضون يوم أو يومين".
تصعيد قانوني
من جانبها أكدت صحيفة "واشنطن بوست" أن الإدارة الأمريكية أبلغت المحكمة مساء الجمعة أنها ستلغي أكثر من 4000 وظيفة في وكالات متعددة، منها التجارة والتعليم والطاقة والصحة والإسكان والأمن الداخلي والخزانة، بالإضافة إلى وكالة حماية البيئة التي أبلغت ما بين 20 و30 موظفًا باحتمال تأثرهم بقرارات إعادة الهيكلة في المستقبل.
ونقلت الصحيفة أن الإدارة اعترفت في ملف قضائي بأن وكالات أخرى "تدرس بجدية إمكانية إجراء المزيد من قرارات إعادة الهيكلة المتعلقة بالانقطاع المستمر في الاعتمادات"، وهو ما فُسّر على أنه نية لتوسيع نطاق التسريحات، وذكرت أن الرئيس الأمريكي صرح للصحفيين بأن هذه القرارات "موجهة نحو الديمقراطيين"، فقال: "ستكون هذه القرارات موجهة نحو الديمقراطيين لأننا نعتقد أنهم هم من بدؤوا هذه القضية.. سيكون هناك الكثير".
وأشارت "واشنطن بوست" إلى أن قرارات التسريح استهدفت في الغالب مكاتب تُعنى بسياسات اجتماعية، مثل وحدة في وزارة الصحة تُركّز على سياسات الأسرة والمجتمع، ومكتب يُعنى بالإسكان العادل والمتساوي داخل وزارة الإسكان والتنمية الحضرية، وقسم في وزارة التعليم يُركّز على تحسين التحصيل الدراسي لطلاب الصفوف من الروضة إلى الصف الثاني عشر.
وأكدت الصحيفة أن الموظفين سيُمنحون مهلة لا تقل عن 30 يومًا قبل سريان قرارات التسريح، في حين أنه سيُمنح بعضهم مهلة 60 يومًا وفقًا للوائح الفيدرالية.
نقابات تُقاضي
وقالت "واشنطن بوست" إن عمليات التسريح تُعد تتويجًا لسنوات من العمل التمهيدي الذي أرساه فوت، مهندس "مشروع 2025" الذي يهدف إلى تقليص البيروقراطية الفيدرالية.
وأوضحت أن مسؤولين قانونيين حذّروا في الأيام الأولى للإغلاق من أن عمليات التسريح خلال فترة انقطاع التمويل قد تكون مخالفة للقانون، استنادًا إلى قانون مكافحة العجز المالي الذي يمنع الحكومة من إنفاق أموال لم يوافق عليها الكونغرس.
قدّمت النقابات الفيدرالية بالفعل دعاوى قضائية ضد مكتب الإدارة والميزانية ومكتب إدارة شؤون الموظفين، معتبرة أن الإدارة "لا تملك السلطة لإجراء عمليات تسريح مؤقت للموظفين" أثناء الإغلاق.
وجاء في نص الدعوى: "لا يوجد في قانون مكافحة العجز المالي أو أي قانون آخر ما يجيز عمليات تسريح مؤقت للموظفين الذين يعملون في وكالات أو برامج تعاني من انقطاع في التمويل.. إن تجاهل القانون الفيدرالي الملزم هو إجراء تعسفي ومتقلب".
وأمر قاضٍ اتحادي في كاليفورنيا الإدارة بتقديم تقارير عن حالة إشعارات التسريح، لكن الصحيفة أوضحت أن الحكومة لم تقدم المعلومات في الموعد المحدد، وبعد إعلان فوغت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، طلبت النقابات وقفًا فوريًا للقرارات حتى جلسة الاستماع المقبلة.
محامون يحذرون
نقلت "واشنطن بوست" عن محامي التوظيف الفيدرالي كيفن أوين قوله إن عمليات التسريح "غير قانونية على الأرجح"، مؤكدًا أن "الانقطاع المؤقت في التمويل لا يُعدّ نقصًا في الأموال". وأضاف: "الأمر أشبه بمحاولة تسمية التفاحة بالبرتقالة؛ كلاهما فاكهة، لكنهما ليسا الشيء نفسه".
وأشار المتحدث باسم وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، أندرو نيكسون، إلى أن هذه الخطوة "محاولة لكبح نمو الوكالة خلال استجابة إدارة بايدن للجائحة"، مؤكدًا أن جميع من شملتهم الإشعارات "صُنّفوا على أنهم غير أساسيين من قِبَل أقسامهم المعنية".
وأكدت الصحيفة أن هذه الجولة تُعد أحدث فصل في عامٍ قاسٍ على العاملين الفيدراليين الذين شهدوا مغادرة مئات الآلاف من زملائهم بسبب برامج الفصل أو التقاعد، ومنها 150 ألفًا غادروا ضمن برنامج الاستقالة المؤجلة.
تسع وكالات تتأثر
وقالت صحيفة "بوليتيكو" في تقرير لها إن فوغت أعلن صراحة عبر منصة X: "بدأت عمليات تسريح الموظفين"، مؤكدةً أن تسع وكالات على الأقل تأثرت، منها الداخلية، والأمن الداخلي، والخزانة، ووكالة حماية البيئة، والتجارة، والتعليم، والطاقة، والصحة، والإسكان والتنمية الحضرية.
ونقلت الصحيفة عن متحدث باسم مكتب الإدارة والميزانية تأكيده أن هذه "عمليات تسريح وليست إجازات بدون راتب"، من دون تقديم تفاصيل عن الأعداد.
وأشارت إلى أن فوغت يُنفذ تهديدًا بإلحاق "المزيد من الضرر السياسي بالديمقراطيين"، حيث صرّح الرئيس في اجتماع لمجلس الوزراء بأن إدارته "تخفض برامج الديمقراطيين فقط".
وكتبت النقابات في ملفات قضائية أن وزارة الخزانة تعمل على إصدار إشعارات فصل لـ1300 موظف، في حين لم تُخطر وزارة الداخلية موظفيها رسميًا. وقال أحد موظفي الوزارة عن منشور فوغت: "إنه مستفز".
وذكّرت الصحيفة بأن الموظفين الفيدراليين كانوا في حالات الإغلاق السابقة يُمنحون إجازات مؤقتة وليس فصلًا دائمًا، لكنها أشارت إلى أن الإدارة الحالية "قلّصت جهازها البيروقراطي متهمةً إياه بالهدر والاحتيال وسوء الاستخدام".
واختتمت السكرتيرة الصحفية كارولين ليفيت بقولها: "تريد هذه الإدارة إعادة فتح الحكومة.. لا نريد أن نرى الناس يُسرّحون، لكن للأسف، إذا استمر هذا الإغلاق، فسيكون تسريح العمال عاقبة مؤسفة".